![]() |
الذي تبحث عنه يبحث عنك |
وجدتُ الإله، الذي ليس ملكاً لأحد، هو إله الجميع، لا يُحصره دينٌ ولا فِكر، إنه إله لا يملكُه أحد، والجميع يملكونه...
الذي تبحث عنه يبحث عنك
أشار نحوك سِري حتى، فنِيتُ عني فقلتُ: أنت، وغابَ عني سُكونُ قلبي، عرَفتُ سِري فأينَ أنت، أنت حياتي وسِرُّ قلبي، فأينما كنتُ، أنتَ كُنتَ، أحَطتُ عِلمًا بكلِّ شيءٍ، فكلُّ ما أراه، أنت، فامنُنْ بالعفو يا إلهي، فلن أرجو سواك أنت...
كان هذا هو عهدي بالحلاج... أذكر هذه الأبيات جيداً...
في شتاء 2015، كنتُ قد جهَّزتُ فنجان قهوة وأخذتُ أُبحرُ في مواقع الإنترنت، باحثاً عن إجابات، لطالما أردتُ أن أعرف الحقيقة، هل ما نعرفه هو الله حقاً؟ وتساءلتُ: هل يحق لي أن أطرح هذا السؤال؟ ألا يُعد هذا تجاوزاً على الشريعة والفقه؟ ألا يُعد هذا تعدياً على أهل العلم والدين؟ لقد درسوا وتعلموا وفقَّهوا الدين ونقلوا لنا زُبدة أبحاثهم ودراساتهم وفقههم وقدَّموا لنا الله...
لكن، هل هذا حقاً هو الله؟ لو كان كذلك، فهو إلهٌ بعيد، حبيسٌ في أماكن العبادة، ليس لي الحق في التحدث إليه أو مناجاته، ولا أن أُعلن ذنوبي في حضرته، ولا أن أرفع خطاياي لعليائه، ولا أن أجمع شتاتي وآتي إليه ممزقاً ليجبرني، إنه إلهٌ سادي، يتهدَّدني، ويُخيفني، ويعذِّبني، إنه إله المؤمنين فقط، فالعصاة مصيرهم النار وليست الرحمة، لهم العذاب لا المغفرة، أبوابه مُغلقة وجنته لا يدخلها الخاطئون...
أسئلتي لم تجد جواباً عند الفقهاء والعلماء، لي فقط نصيبٌ من اللعنات وطلب الرحمة والهداية، وقد عشقتُ ذنوبي حينما رأيتُ الإيمان الزائف، لذا، شرعتُ في البحث عن الأجوبة بنفسي، حاملاً شكوكِي باحثاً لها عن إيمان، كنتُ إنساناً قتلوه يحاول أن يحيا، أرهقته رحلة لم تبدأ بعد...
بدأتُ بالقراءة والبحث، أطرحُ أسئلتي على محرِّك البحث عسى أن أجد جواباً، أو أُبصرُ بصيص أمل، وبعد يأسٍ وإعياء، تراقصت كلمات الحلاج أمام بصيرتي، شخصٌ أذهلني بما يحمله في صدره من إيمان واعتقاد، وإن خالفوه، آمنتُ بالحلاج بأنه سينقذني كما آمن بلال بأن "أحدٌ أحد" ستنقذه...
فتح لي الحلاج باباً جديداً للمعرفة، التصوف، فقرأتُ الحلاج وابن عربي، تعرفتُ على البسطامي، والجنيد، والشاذلي، والجيلاني، ومعروف الكرخي، وفريد الدين العطار، وإن لم أعتبر الحلاج شيخاً أو عالماً، بالنسبة لي كان مُريداً، أراد الله فحسب، وقرأتُ أيضاً آنا ماري شيمل، إيفا دوفيتري ميروفيتش، محمد إقبال، سيد حسين نصر ولويس ماسينيون وغيرهم من شيوخ وعلماء التصوف، وعدداً لا يحصى من المقالات والأفلام الوثائقية التي تتحدَّث عن التصوف، وما هو معنى التصوف، وكيف تكون صوفياً، وكرامات الشيوخ والأولياء، وطقوس الطرق والتكايا، وما معنى أن تكون مُريداً، وكيف تكون مُريداً، وما هي آداب الاتباع، وأداء العهد، كنتُ أقرأ وأقرأ وأستوعبُ معلوماتٍ جمَّة حتى شعرتُ أن عقلي توقَّف عن الاستيعاب، وأن خفقان قلبي قد هدأ، فلم أعُد أعرف ماذا أُريد وعن ماذا أبحث وضاعت روح الحلاج في سطور الأبحاث والنظريات والمقالات والتحليلات والدراسات، ضاع الحلاج و ضعتُ أنا...
باتت حياتي أكثر فوضوية، وسألتُ نفسي: ماذا أريد من التصوف؟ ما الهدف منه؟ هل أُريد التصوف المعرفي أم الطرقي؟ هل أريد الله؟ هل أُريد المعرفة؟ هل أُريد الكرامات والخوارق؟ هل أُريد الوصول للحضرة والبقاء والفناء؟ هل أُريد التميّز عن محيطي؟ هل طلبي لله صادق؟ أم أنني أتملق؟ لم أعد أعرف نفسي، رحلتي للبحث عن الأجوبة قادتني للمزيد من الأسئلة، فتركتُ كل شيء، وتوقفتُ عن القراءة والبحث عن الأجوبة، فقد ابتعدتُ كثيراً عني، ولم تعُد تعنيني الأجوبة ولا الأسئلة، أُصبتُ بحالة لا مبالاة...
شاهد مواضيع مميزة قد تهمك ايضا
أعادني الله للبحث عنه مرة أخرى بطريقة عنيفة، جذبني إليه من صميم القلب، فقد تمزَّق، عدتُ إليه وأنا أعاتبه، أُجادله، ألومه، أشتكيه، أسأله أين أنت؟ لم تركتني؟ لم تخلَّيتَ عني؟ يقولون أنك أقرب من حبل الوريد، فأين وريدي مني؟ كنتُ أصرخ مع كل جَذبة يجذبني بها ولا أجد معنى لقسوته، كفرتُ بكل شيء ولم أعد قادراً على التركيز، وعقلي توقَّف عن محاولة فهم ما فات فلا معنى لذلك، والروح لم تُتمَّ بعد، عشتُ بالتسليم الكلِّي، لم أخجل من ضعفي، وأعلنتُ عجزي وأنني وصلتُ لحالة الاحتراق...
وفي مكانٍ ما، قرأتُ لمولانا الرومي: الجرح هو المكان الذي يدخل فيه النور إلى أعماقك... هذه الآلام التي تشعر بها ما هي إلا رسل، فاستمع لهم... داوم على كسر قلبك حتى تفتحه... لا تلتفت بعيداً، حافظ على بصرك على موضع جرحك، هناك حيث يدخل النور إليك... جمعتُ حوائجي و ثيابي في حقيبة و ذهبتُ إليه...
أول مرة حججتُ فيها إلى قونية شعرتُ بسلام غريب لحظة وطأت قدماي أرضها، رائحة هوائها مُباركة وطعم ترابها غني... وقتها كانت قونية تعجُّ، تحتفل هي و حجاجها بميلاد مولانا، وصلتُ ليلاً لكنني استطعتُ أن أرى عشاق مولانا يدورون وينشدون على نغم البنادير وشدو الناي... صباحاً ذهبتُ لزيارته، وضعتُ وشاحاً على رأسي ودخلتُ ضريحه المُقدَّس، وشممتُ عبير أنفاسه تتردد في المكان على الرغم من ازدحامه بعشاقه، هناك من يُصلِّي، وهناك من يدعو، وهناك من يقرأ فاتحة الكتاب، وهناك من يبكي، وهناك من يرفع يديه مُتعلقاً برحمة الله... أُخذتُ من نفسي وغبتُ في عالم لا أريد الخروج منه، سِرتُ ببطء، وتخليتُ عن تعلُّقي بروحه التي غمرت المكان لأزور شمسي "شمس تبريزي"...
تُهتُ بداية وأنا أبحث عن شمسي، حاول أن يدلَّني على مسجده رجلٌ عجوز كل ما فهمه مني هو "شمسي"، وكل ما فهمته منه هو "شمسي"، أيقنتُ حينها أن شمسي هو الدليل وهو الأثر، فاتبعتُ حَدي وثقتي بقلبي حتى وجدتُ نفسي أمام مسجده... هناك، أمام ساحته استقبلت روحي نسائمه، خلعتُ حذائي، رفعتُ وشاحي على رأسي ودخلت... شعور مُختلف عما أحسسته في حضرة مولانا، سرى قشعريرة في جسدي فارتجف، رفعتُ يدي وصلَّيتُ، صلاة مُختلفة، فيها دعاء، فيها رجاء، فيها قرآن، فيها إيمان العجائز، فيها صلاة الحلاج ووضوئها الدم... شمسي جنونه يلائمني، حين يرفع يديه نحو السماء صارخاً بعشقه، يبدأ بالدوران، يُخرج قلبه من صدره ويُقدِّمه ليتسع للخطّائين قبل الصالحين، يُقِرُّ بقتلته قبل أن يُقِرَّ بعشَّاقه، يبكي خطايا البشر ويرجو الله أن يحمل وزرهم ويتركهم أنقياء... شمسي، يقولون غاب في غياهب البئر، كيف ذاك، إنه في كل مكان، في كل زمان، في نفس كل وليّ، وفي كل رجل مبارك، في كل طفل، في كل شيخ، في كل رجل وفي كل امرأة، في كل خاطئ وفي كل صالح، أنفاسه تتردَّد وأنا أستنشقها... لقد عشقتُ شمسي، وها قد ظهرت روح الحلاج مرة أخرى...
على أعتاب شمسي، وجدتُ الله مرة أخرى، كان الله الذي بحثتُ عنه ولم أجده من قبل، لا في كُتب الدين ولا في خُطب الشيوخ، ولا لدى المفتين والفقهاء، الله المُحب، الرؤوف، الرحيم، الذي قال: ما وسِعني سمائي ولا أرضي، ووسعني قلب عبدي المؤمن، وجدتُ الإله الذي ليس ملكاً لأحد، إنه إله الجميع، لا يُحصره دينٌ ولا مفهوم، إنه إله لا يملكُه أحد، والجميع يملكونه...
عرَفتُ التصوف مرة أخرى، وقد كان مُختلفاً عما قرأتُ سابقاً، تركتُ عقلي خلفي واستعرتُ ثوب الحلاج ورأيتُ ربي بعين قلبي، عرَفتُ التصوف الطرقي، وما معنى الأخوَّة في الطريقة، وانضممتُ لحلقات الذكر، وقرأتُ الأوراد، وتعلمتُ أن أعرف نفسي وأواجهها، فقد قال أهل التصوف: من عرف نفسه فقد عرف ربَّه، ولو تفكَّر الإنسان في ربِّه سبحانه وتعالى لآمن به وازداد به يقيناً ومعرفة، فإذا عرفتَ ضعفك عرفتَ قوة الله، وإذا عرفتَ جهلك عرفتَ علم الله، وإذا عرفتَ ذنوبك عرفتَ رحمة الله، تعلمتُ الكثير في الطريقة وما كان بها من التزام وتفان وولاء لشيخها، ولكن لم أجدني، لم أرَ شمسي وجنونه هناك، أحسستُ بأنني مُقيَّدة في سماء الحرية، فمعرفة الله حرية، والإيمان بالله حرية، ورؤية تجليات الله حرية، ومحبة الله حرية...
عرفتُ أن التصوف أسلوب حياة، نمارسه يومياً وليس فقط بين جدران التكايا والطرق والحضرة وحلقات الذكر، فالله في القلب، معنا وفينا وبنا، فقد نفخ فينا من روحه، هو يدلنا عليه، هو يُرشدنا إليه، وهو يهدينا إليه، يدفعنا للتجارب حتى ننضج، حتى نترقى، حتى نقترب ونؤمن أكثر، فالإيمان هو ما يجعلنا نستمر، هو ما يجعلنا نتخلص من ذواتنا القديمة وما تعودنا عليه وما تعلقنا به لأننا نخشى التغيير، وما يترتب على هذا التغيير، فالانفتاح على الثقافات الأخرى وتقبُّل الآخر وفهم ما هو موروث وقراءة المعتقدات بشكل مُختلف والتصرف بروحانية أعلى، هنا نترك أثراً، ويكون لنا دوراً نلعبه في الحياة، سواءاً في حياتنا أو في حياة المُحيطين بنا، فنحن هنا الآن ومن ثم ماضون، فماذا سنترك وراءنا من أثر...
إنه ليس الإيمان بالله فقط، إنه الإيمان المُطلق، بفكرة، بقضية، بموقف، بشخص، بأمة، بوطن، وبما أن الله هو المُطلق فإن الإيمان المُطلق هو الإيمان بالله، لأن الله يتجلَّى في كل شيء، بأقواله، وأفعاله، وصفاته، هو الإيمان بالله وبذاته، بدون شروط، وبدون أسباب، يصبح للعبودية مُنى آخر، نعبده لأننا نؤمن به، ونؤمن به لأننا نعبده، نعبده لأننا نحبه، لا خوف من عذاب ولا طمع في ثواب، يصبح للعبودية لذة، إنها مُطلقة، نخرج من عباءة عبوديتنا للأشياء، للأشخاص، نتحرَّر من القيود التي وضعناها حول أنفسنا بدون أن نشعر سواءاً بعاداتنا، بطقوسنا، بتفاصيلنا الصغيرة أو حتى تفاصيلنا الكبيرة، أصبح للعبودية معنى أعمق وأكبر...
تعلمتُ أن التصوف دعوة لمعرفة النفس، لمعرفة جذورنا الحقيقية، للغوص في أعماق ذواتنا، لفك شيفرة أرواحنا، للسفر في عاداتنا القديمة، للتخلص مما كُنا نؤمن به سابقاً لنؤمن بشيء جديد، لنتجنَّب الموت الداخلي وعدم الحياة، لنعرف فيما إذا كانت مشاعرنا حقيقية وأنها موجودة فعلاً، إنها دعوة لإعادة اكتشاف الله ومعرفته...
علَّمني التصوف أنه يمكننا دائماً أن نبدأ من جديد، أن نتصالح مع أنفسنا، وأن نغفر خطايانا، ونتقبَّل ماهيتنا، ونحتفي ونمتن لكل تجربة ألم عشناه سابقاً، فكل التجارب ساهمت في نضجنا، في ترقينا، في زيادة الوعي فينا، في شعورنا بالرضا والتسليم، لا ننسى ولكننا نُسامح...
علمني التصوف بأننا لا نملك شيئاً، لأنه لا شيء لنا، ولا شيء نحن، فالتعلق بالأشياء أو الأشخاص يجعلنا نقع في فخ الديمومة، لا تعود الأشياء أو الأشخاص تأخذ قيمتها الحقيقية، نفقد متعة الاستمتاع بما في أيدينا الآن، معرفتنا بأن لا شيء باقٍ يجعلنا نُقدِّر أكثر، ونهتم أكثر، ونحب أكثر، ونعطي أكثر، ونتقبَّل أكثر، ونتعافى أكثر، ونُصدِّق أكثر، ونؤمن أكثر...
علَّمني التصوف بأن أفتح قلبي وأقبل الآخرين كما هم وإن لم يقبلوني، ومع ذلك لا يصلح الجميع لأن أُصادقهم، فالأرواح تتلاقى بمحبة، والتي هي جزء من حب الله، فلا يكون هناك قسوة، تعلمتُ أن أختار خليل قلبي بحكمة ورفيق روح يليق بروحي، فالروح لا تهوى إلا من يشبهها، تعلمتُ أن أبرِّد نار نفسي بالاستغناء، فقد قال حكماؤنا "استغنَ يا ولدي فمن ترك ملك"...
التصوف ما هو إلا تجربتي الشخصية، لمعرفة نفسي وخفاياها، وكيفية التعامل معها صعوداً وهبوطاً، وتقبلها في خطاياها كما في حسناتها، تركتُ نفسي مع نفسي لأواجهها وأكتشف بشاعتها، وكيف أتعامل مع ما أخفوه عن الناس، فعندما يكون الإنسان لوحده، تظهر حقيقته، فهو عادة لا يملك الوقت لنفسه، ولا يعرف منها إلا الذي يُعجبه فقط، لم أكن أُريد أن أُغيِّر نفسي بمعرفتها فقط، ولكن معرفتي بها تجعلني أفهم ما يصدر عني في حالات مُعيَّنة، والأهم لأفهم لماذا أتصرف كما أتصرف، لأعرف أكثر، ولكي أعرف الحقيقة خسرتُ نفسي وتجرَّدتُ عن كل ما هو معلوم ومعروف، ومرة أخرى، التصوف بالنسبة لي ليس كلمة لها معنى مُحدَّد، إنه أسلوب حياة، تحلِّي وتخلِّي وتجلِّي، التحلي بكل ما هو حسن، والتخلي عن كل ما هو سيء، ليتحلَّى الحسن في الصفات والتصرفات، فلا أكيل بمكيالي على أحد، ولا أحكم على أحد، ولا أؤذي أحد، أُعامل الأشخاص والأشياء بميزان المحبة والعفو والتسامح، ويكفي للإنسان أن يعرف نفسه وأن يؤمن بالله...
تعليقات: (0) إضافة تعليق